مصعب محمود يكتب : القومة لجزيرة الخير
زرتها يافعا في ذلك الزمان وكنت وقتها متعاونا في برنامج إذاعي خاص بقضايا الأطفال والشباب في اذاعة الBBC لندن كانت زيارة عمل تحركت فيها من الخرطوم الى مدينة ودمدني ، كانت الرحلة ليوم واحد الا انني أستأذنت من رئيس الفريق الاستاذ العزيز الخبير الاعلامي الفاضل عامر من اليونسيف ان يسمح لي بأن امضي يومين آخرين في مدني لاتجول فيها وأزور منزل وأسره جدنا ضابط الشرطة الشهير عبدالرحمن قرافي باشلاق مدني – له الرحمة والمغفرة- .
بعدها بعدة أشهر أكرمني الله بقبولي طالبا في السنة الأولى في جامعة الجزيرة بمجمع النشيشية في ودمدني حاضرة ولاية الجزيرة ، فيممت نحوها ذات صباح من بورتسودان عبر البصات السفرية برفقه زميل الدراسة بالثانوي ودفعة الدراسة بالجامعة د يوسف الكنزي صاحب صيدليات الفنار الشهيرة ببورتسودان ، فكنت سعيدا بلقاء لفيف من الشباب والشابات العظماء من مختلف أنحاء السودان وغالبيتهم من مختلف أنحاء محليات وقرى الجزيرة ، صرنا فيما بعد أكثر من أصدقاء وأهل وعشرة عمر .
بعد أن امضيت شهرا أو أقل في مدني تذكرت حكاوي إبن جيراننا في مدينة جبيت آنذاك مجذوب بشير ، منزلهم كان أمام منزلنا في المعسكر الجنوبي حيث اشلاق مدرسة ضباط الصف ، والده له الرحمة والمغفرة كان زميلا لوالدي في القوات المسلحة ، مجذوب وانا تزاملنا حتى الخامس ابتدائي في مدرسة جبيت الشرقية ، كان يحكي لي عن قريتهم الوادعة ( النقير – ريفي عبود ) بالمناقل ويصف لي جمال الطبيعة وطيبة أهل القرية وعمليات قلع الفول السوداني وحصاده ورعي البهائم نهارا والعودة عصرا من البلدات تكونت عندي صورة زاهية لتلك المنطقة التي لم أراها من قبل .
تحركت صباح يوم جمعة في منتصف شهر أكتوبر تقريبا إلى السوق الشعبي ودمدني وسألت عن مواصلات عبود ، فعلمت انها قبل مدينة المناقل بمسافة بسيطة ، فكان نصيبي كرسي في إحدى حافلات المناقل ، فجلست عند أحد شبابيك الحافلة متأبطأ كاميرتي وفيلم ( ٣٦ لقطه ) فعبرنا عبر الكريبة ثم كبري بيكه بشكله القديم ، كنت كل مره أسأل الراكب الذي يجاورني اها دخلنا مشروع الجزيرة ولا لسه ؟ حتى ذلك الوقت ليس لدي فكره كاملة عن المشروع والزراعة فيه سوى الصورة التي رسمها خيالي بناءا على وصف صديقي مجذوب النقير .
مررنا بعدها بعدة قرى أبرزها المدينة عرب و ودربيعة حتى تقاطع تفتيش النصيح ثم نزلت في مظلات قرية عبود لتواصل الحافلة رحلتها حتى المناقل .
على طول الطريق ونحن نعبر الترع وجداول المياه المتفرعة ابوعشرين وابوسته والمساحات الخضراء والثروة الحيوانية على جنبات الطريق .
ظللت أسأل ويجاوبني جاري في الحافلة وبعض الركاب الآخرين بكل طولة بال وطيب خاطر عن الجزيرة وقراها ومشروعها الزراعي وإمتداده في المناقل ومواسمه الشتوية والصيفية وطريقه إدارته .
حينما نزلت في عبود كان نصيبي بنك معلومات وعدة صور إلتقطتها في الطريق .
بدأت السؤال عن قرية النقير وكيفية الوصول لها ، فدلني البعض لسوق عبود فذهبت اليه راجلا قاطعا مشوارا من المحطة حتى السوق فعلمت أن النقير لا تبعد كثيرا عن عبود ، بعد الترعة مباشرة موازيه لعبود الا أن الأمطار في ذلك الوقت قد غطت الأرض تماما مابين عبود والنقير ، وأثناء السؤال والبحث دلني بعض أهل السوق ان عبدالمنعم صاحب أحد البكاسي هو من سكان النقير ، وبعضهم ساعدني في البحث عنه حتى وجدته ، ومن محاسن الصدف كان منعم خال مجذوب فرحب بي ورافقته حتى القرية ظهر ذلك اليوم ، وكانت مفاجاة لمجذوب وامه واخته واخيه الصغير الذي تمت ولادته لاحقا بعد إفترقنا في جبيت منذ سنوات وعلمت أن والده قد مات بعد ذلك.
الشاهد في الأمر وفي هذه القصة إنها كانت بداية معرفتي بالجزيرة كما كان تطوعي في قضايا الطفولة مع اليونسيف والبي بي سي آنذاك سببا في معرفتي بودمدني .
أكرمني أهل مجذوب وذبحوا لي في اليوم الثاني رغم بساطتهم الا انهم كانو جد كرماء ولطفاء عكسوا لي صورة زاهية عن الجزيرة وإنسانها المكافح القنوع تواصلت زياراتي لاحقا لقرية النقير ، فأصبحت خبيرا في الوصول إليها حيث أنني أنزل في محطة مكتب تفتيش النصيح ثم اتجه يسارا على بعد عدة كيلومترات حتى قرية النقير .
طيلة سنوات إقامتي في ودمدني طالبا في جامعة الجزيرة ثم مقدما للبرامج بتلفزيون واذاعة مدني زرت عشرات القرى بعضها زيارات إجتماعية وبعضها مهام إعلامية او أنشطة طوعية ، وفي كل قراها كنا يكرمونك حتى الثمالة .
زرت حتى الجميعابي وطيبة النعيم ودحمد وودالماجدي والطالباب والكسمبر في الكاملين وزرت ابوعشر وضواحيها من ابوشنيب حتى الغبشان و الربع ، زرت قرى الحصاحيصا حتى أم عضام والولي ووالسيد ، زرت قرى جوار مدني حتى فداسي وودالشافعي ومهله ، زرت ما جاورها من قرى جنوبها حتى ودالنعيم ومساعد ، زرت قرى المناقل حتى ودالجتره وودالنورة ومعتوق، زرت قرى شرق الجزيرة من رفاعة حتى ودرحوم ودلوت والشرفات وغيرها زرت قرى طريق الشرق حتى العوضية والقرية ٤٠ وأم القرى وود الأبيض والشبارقة والدناقلة وغيرها ، زرت قرى جنوب الجزيرة حتى الرميتاب و الحوش و ودنعمان والفوايده ، وفي طريق سنار زرت حتى قندال والحاج عبدالله وغيرها من القرى حتى الشبونات أقصى جنوب الجزيرة وهذا غيض من فيض من زياراتي لقرى ومدن الجزيرة – فك الله كربتها .
ما يجمع أهل الجزيرة بكل قبائلهم وإنتماءاتهم السياسية هو وطنيتهم المميزة ، وحبهم للعمل وعصاميتهم ، وإهتمامهم بالأرض وفلاحتها ، وعدم إنغلاقهم على ذاتهم وهمهم الأكبر السودان كله ، لا يعرفون القبلية ولا الحزبية .
إنسان الجزيرة بطبيعته مسالم لا يعرف العنف ولا يميل له ، متصالح مع نفسه يقبل الآخرين دون تمييز ، عينه مليانه لا يسأل الآخرين ما عندهم .
ان ما حدث في ودمدني حاضرة الجزيرة في نهاية ديسمبر ٢٠٢٣ من إحتلال لمليشيا الدعم السريع لعاصمة الولاية قد آلمنا والله أكثر مما آلمتنا الخرطوم التي فقدنا فيها كل ما نملك ، ثم ما حدثت من انتهاكات في إحياء مدني وقرى الجزيرة عموما وضواحيها وما يحدث هذه الأيام في شرق الجزيرة لهو مؤلم والله ومؤسف للغاية ، عصابات المليشيا الإرهابية تفعل في القرى الآمنة المسالمة أسوأ مما فعله التتار آنذاك من قتل وتعذيب وإغتصاب ونهب وإختطاف ومطالبة بفدية ، تواصل المليشيا إعتداءآتها الآثمة تجاه المدنيين العزل وتهرب من قواتنا الباسلة لتحتمي بهم وتستخدمهم دروعا بشرية .
الرحمة والمغفرة للشهداء والشفاء العاجل للجرحى والعودة الآمنة للمفقودين والمخطتفين والمخفيين قسريا …
اللهم أرنا في مليشيا الدعم السريع الإرهابية ومن عاونهم عجائب قدرتك .