المنوعات

رحلات تاريخية … الحج عبر أرض السودان

بورتسودان : برودكاست نيوز

رحلات تاريخية … الحج عبر أرض السودان

كانت وفود حجاج بين الله الحرام من غرب أفريقيا لا تخلو من العلماء والكتاب والشعراء الذين وثقوا لرحلاتهم العابرة بأرض النيل إلى الحجاز، ويعتبر العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي (1905-1974) ومن أشهر من كتب موثقا رحلته الحجازية والتي كانت رحلة نثرت علم الشيخ في كل مكان حل فيه مدارسة وفتيا وإجابة عن أسئلة طلاب العلم وأشياخهم، ووثق كل ذلك في كتابه “رحلة الحج إلى بيت الله الحرام”.

بعد انتشار الإسلام في الخرطوم قبل قرون بعيدة ظلت قارة أفريقيا مستجيبة للنداء (رجالا وعلى كل ضامر) وعلى كل ما جد من وسائل النقل إلى أن اختصرت الطائرات الأوقات وطوت المسافات.

0 8
طريق بري يسلكه الحجاج الأفارقة عبر السودان
كانت الطرق البرية التي يسلكها الحجاج من غرب أفريقيا معروفة وتاتي بها الوفود في قوافل كبيرة تحتاج لترتيب خاص وعام في رحلة تطول ذهابا وإيابا، ومن أهم هذه الطرق:

“درب الأربعين” الذي يمر بالغرب الأفريقي، ويمر ببلاد الهوسا (شمال نيجيريا وجنوب النيجر حاليا)، ثم ببلاد كانم (تشاد حاليا)، فمناطق وداي في شرق تشاد، ثم دارفور في السودان، ويمر بواحة سليمان ليتجه نحو أسيوط ثم البحر الأحمر، ومنه إلى الأراضي المقدسة.

WhatsApp Image 2025 05 22 at 17.07.44 3531d066

ويعتبر طريق درب التبان من أقدم طرق الحج الأفريقية، لكن في أواخر القرن الـ19 ومع اندلاع الحرب في المناطق الواقعة حول مملكة برنو التي (حكمت نيجيريا من 1380 حتى 1893) اضطرت قوافل الحجاج للانصراف إلى الطرق الأخرى، منها الطريق الصحراوي الذي يشق الصحراء من بلاد أقدز في النيجر إلى القاهرة فالبحر الأحمر.

الطريق في السودان يشبه درب الأربعين، لكنه بدل أن يتجه من دارفور نحو الشمال الشرقي يواصل شرقا إلى كردفان وحاضرتها الأبيض ثم الي الخرطوم، ويتجه بعد ذلك شرقا إلى ميناء سواكن على البحر الأحمر.

وبعد هذا الطريق من أكثر الطرق استعمالا ، بحسب رواية الدكتور أمين إسماعيل ساغاغي من قسم الدراسات الإسلامية في جامعة بايرو -كنو (نيجيريا) .

وثق العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي (1905-1974) رحلته الحجازية والتي كانت رحلة نثرت علم الشيخ في كل مكان حل فيه مدارسة وفتيا وإجابة عن أسئلة طلاب العلم وأشياخهم، ووثق كل ذلك في كتابه “رحلة الحج إلى بيت الله الحرام”.

تضمن كتابه عدد من الفوائد: الفتاوى في الدين واللغة، والسرد لما كان من رحلته، والوصف لما كان في رحلته من لقاءات مع العامة والخاصة، ومن ذلك نقاشاته في معهد أم درمان العلمي، وذلك في حقبة الشيخ يوسف إبراهيم النور.

وكان للشيخ الشنقيطي اتصال بعلماء أم درمان فقد احتفى به وجهاؤها “لما عزمنا على السفر من أم درمان اجتمع بنا الأخ الفاضل محمد صالح الشنقيطي رئيس لجنة في السودان (محمد صالح الشنقيطي رئيس أول جمعية تشريعية سودانية في الفترة ما بين 1948 و1953)، فأحسن إلينا وأكرمنا غاية الإكرام، وجمع بيننا وبين السيد عبد الرحمن (السيد عبد الرحمن المهدي 1885-1959 ابن الإمام محمد المهدي وجد السيد الصادق المهدي رئيس الوزراء الأسبق)، فعزيناه في ولد ولده كان متوفى عند ملاقاتنا، ففرح بلقائنا وأظهر لنا البشر والإكرام، وأهدى لنا هدية سنية، وشيعنا بسيارته الخاصة، وأخذ لنا ولجميع من معنا تذاكر السفر في القطار الحديدي”.

كما تضمن الكتاب وصفا للحال المجتمعي حسنه وقبيحه، من إكرام الضيف إلى “الواسطات”، وكل الذي حدث لهم في سواكن (شرق السودان) “وكان بواب المركز يدخل قبلنا كثيرا من أخلاط الناس، من أسود وأحمر ونحن جئنا قبلهم، فذكرني ذلك قول عصام بن عبيد الزماني:

أدخلت قبلي قوما لم يكن لهم في الحق أن يدخلوا الأبواب قدامي.

وتعددت القصائد التي كتبها العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي القصائد التي كتبها من حج أو من حركت البقاع المقدسة مشاعره، وللحجيج الأفارقة شعر كثير شأنهم في ذلك شأن غيرهم من الحجاج ممن لهم بالشعر آصرة، وهذا أمر طبيعي فيما يراه الشاعر الواثق يونس في إفادته للجزيرة نت.

ويقول يونس “ظلت الرحلة لأداء الحج حافزا لكتابة القصائد عند الشعراء للمشاعر المعتملة في نفوسهم، وما تحركه الأشواق، وعدد القصائد أكبر من الحصر”.

وبشأن الحديث عن طريق الحج الأفريقي يضيف الواثق “تتنوع القصائد الذاكرة لرحلة الحج الأفريقية بين حجاج من غرب ووسط أفريقيا جاؤوا عابرين، وبين ما كتبه أهل السودان في وصف هؤلاء العابرين”.

وهنالك من وثق الرحلة شعرا مثل الشيخ عبد الودود ولد سيدي عبد الله -الذي حج في العام 1924- بمنظومة وثقت مسار الرحلة وما لقيه فيها، واصفا الأمكنة وما جرى فيها، والأشخاص الذين التقاهم، والإجراءات الشرطية منها والصحية، ومما نظمه:

حتى وصلنا بالضحى (الأبيضا) ** وقل جسم عندنا لم يمرضا

والكل من أكبرنا والأصغر ** قد فصدوه في الذراع الأيسر

ظلنا وبتنا فيه واسترحنا ** وبعد مغرب قليلا رحنا

نسير في مجوف الحيزوم * * في ليلتين جاء (للخرطوم).

الشيخ إبراهيم إيناس الكولخي السنغالي أيضا وثق لرحلة حجه في كثير من شعره، وإن كان الحج في زمنه صار أغلبه بالطائرة، لكن ذلك لم يمنع أن يكون مطار الخرطوم محطة بين لاغوس وجدة فقال :

فهرولت من أرضي بكولخ طائرا * * بحب وإيمان به متعلقا

بلاغوس بالخرطوم ليلا وإنني * * كذي الشوق لا ألوي على الغير مطلقا

بجدة بالبيت الحرام بزمزم ** بمسعى به الإسلام جهرا تدفقا

بطيبة ما أدراك ما هي طيبة ** بها كل أمر الهاشمي تحققا

لما كان مقام الحجيج من غرب ووسط أفريقيا يطول في السودان فإن أثر الحج وطريقه الأفريقي تمددا في أوجه مختلفة، منها ما هو اجتماعي وثقافي واقتصادي، بل إن أثره ظهر في ديمغرافيا السودان.

وقد عالج الأدب السوداني هذا الأمر على اختلاف أجناسه، من ذلك رواية “أنفاس صليحة” -الفائزة بجائزة كتارا 2018 عن فئة الروايات المنشورة- للأديب عمر فضل الله.

تتحدث الرواية عن فتاة يتيمة الوالدين، تنتمي إلى أسرة من المغاربة الشناقيط، يسافر جدها لأداء الفريضة ويتركها عند “الشيخ محمد”، لتبدأ هي الأخرى رحلة للحاق بالجد.

يقول الشاعر:

“ذرعت كل أفريقيا وهي لا تفتر

وسواكن وجهتها – بحرها الأحمر

فالحجاز إنها الآن في شارع من مدينتنا

فانظروا

ها هي الحاجة” لتبدأ رحلة الحاجة داخل الأراضي السودانية.

ولم يكن الشعر الشعبي المادح لرسول الله صلى الله عليه وسلم غائبا عن ذلك، بل كان صاحب النصيب الأكبر فيما ذكر الباحث والمادح الشيخ عامر أبو قرون للجزيرة نت “دواوين المديح الشعبي حافلة بذكر مدن وممالك من غرب ووسط أفريقيا مثل: فاس، شنقيط، برنو، كانم، بيلا، بلاد هوسا والتكارير، وهذا أمر له أسبابه، فالشعر عاميه وفصيحه يعكس حال مجتمعه، وأثر الحجيج الأفارقة كان واضحا في بلادنا”.

تضمنت ورقة بحثية قدمها الدكتور أمين ساغاغي في ندوة بمركز البحوث والدراسات الأفريقية تحت عنوان “الطريق البري إلى الحج من نيجيريا.. التاريخ، والتحديات، ومعاودة الاستطراق” يورد الباحث عددا من المحاولات لإعادة إحياء طريق الحج البري بين نيجيريا والسودان “أحس بعض الشباب بضرورة إحياء الطريق البري التاريخي في أواخر التسعينيات من القرن الماضي فكونوا رحلات برية تجريبية في السنوات 1989، 1992، 1993، 1995، 1997، إلا أن هذه المحاولات كلها باءت بالفشل لأسباب سياسية واقتصادية وأمنية”.

لكن الحقيقة الباقية أنه وإن تعذر إحياء الطريق فإن القرون الماضية التي عبر فيها الحجاج السودان تركت أثرا باقيا متعدد الأشكال والأوجه.

المصدر : برودكاست نيوز + وكالات

https://chat.whatsapp.com/JVdfxcmryNw2xaLuTbkZ5

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى