العلاقات السودانية الإثيوبية بين نيران الحروب وبرد المصالح
شهدت العلاقات السودانية الإثيوبية خلال ظروف الحرب الدائرة بين الوقوات المسلحة السودانية و“الدعم السريع” بمراحل عدة ضمن انعكاسات سياسية أفضت إلى توتر وتجمد في علاقة الدولتين، لكن هذا العام يشهد تقارب جديد في علاقة البلدين وفق تطورات محلية وإقليمية بعد تغير ميزان القوى لمصلحة الجيش السوداني وزيارة وزير الخارجية السوداني أخيراً إلى أديس أبابا.
في ملف العلاقة بين الخرطوم وأديس أبابا ، تفرض بعض الأسئلة نفسها وبقوة بدءاً من طبيعة الأبعاد الجديدة في علاقة البلدين الواقعين بمنطقة القرن الأفريقي على المستوى الداخلي لكل بلد فيهما، ثم المتطلبات الملحة لضمان استقرارهما على المستوى الإقليمي.
تحفظات السودان على الموقف الإثيوبي الذي فسره بعض السياسيين بأنه تأييد ضمني من أديس أبابا لـ”الدعم السريع” بعد اندلاع المعارك في منتصف أبريل (نيسان) 2023،حمل في حيثياته توتر علاقات البلدين بصورة واضحة عكستها مواقف بعينها تحفظ عليها السودان، في حين ظلت القيادة الإثيوبية تؤكد رفضها ما يجري في البلد المجاور، مناشدة بالتوصل إلى سلام يعيد الأوضاع لطبيعتها.
ظلت العلاقات الرسمية بين الدولتين سارية، إلا أن السودان تحفظ على الموقف الإثيوبي منذ بدء الحرب، خصوصاً مع مظاهر التأييد التي حظيت بها مواقف تحالف قوى الحرية والتغيير (قحط) الداعمة لـ”الدعم السريع” في حربها ضد الجيش السوداني والتي عكسته كذلك تصرفات منظمة الهيئة الحكومية للتنمية بشرق أفريقيا (إيغاد) المدعومة من إثيوبيا وكينيا.
في وقت سابق إنسحب الوفد الحكومي السوداني من أول اجتماع تعقده المنظمة في شأن السودان خلال ديسمبر (كانون الأول) 2023 بأديس أبابا بعد تقديمه طلباً بتغيير رئاسة كينيا للجنة “إيغاد ”، لما وصفه بعدم حياد الرئيس الكيني في الأزمة، وفق بيان الخارجية السودانية آنذاك.
توالت بعدها تصريحات إثيوبية وكينية خلال القمة عن فراغ في القيادة السودانية والدعوة إلى فرض منطقة حظر طيران ونزع المدفعية الثقيلة، ثم اتهام الخرطوم لمنظمة “إيغاد” بتحريف مصوغ البيان الذي خرجت به القمة، مع جملة اتهامات أخرى.
ولم تقف حكومة السودان عند ذلك ، بل اتخذت قراراً بتجميد عضويتها في المنظمة بصورة كاملة وأعلنت أنها غير ملزمة بما يصدر عنها.
وأصدرت وزارة الخارجية السودانية في الـ20 من يناير (كانون الثاني) الماضي قراراً بـ”تجميد التعامل” مع “إيغاد”، بسبب ما وصفته بتجاوزات ارتكبتها المنظمة بإقحام الوضع في السودان ضمن جدول أعمال القمة الاستثنائية الأخيرة في عنتيبي من دون التشاور مع الخرطوم، ودعوة قائد “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو “حميدتي” إلى حضور القمة.
وتمثلت مواقف إثيوبية أخرى لم ترضَ عنها الخرطوم في استضافة أديس أبابا لاجتماع تحالف قوى الحرية والتغيير (قحط) الفصيل السياسي المؤيد لقوات “الدعم السريع” الذي جرى منتصف أغسطس (آب) 2023، ثم الاستقبال الرسمي لـ”حميدتي” بإثيوبيا في الـ28 من ديسمبر 2023 الذي تتهمه الخرطوم بارتكاب مجازر وجرائم في حق السودانيين، لتأخذ العلاقة بين العاصمتين “طابع الصمت”.
ويرجع بعضهم المواقف الإثيوبية التي تفسرها الخرطوم بالسلبية في جملتها ربما إلى ضغوط في توجيه الأزمة السودانية، بينما ينسب آخرون لقضية سد النهضة دوراً ما في توترات علاقة البلدين، على رغم أن إثيوبيا تدرك الموقف السوداني الذي ظل في جملته مؤيداً لها، وما شكلته اتفاقية الخرطوم للمبادئ عام 2015 من كسب، في موافقة طرفي المصب على إنشاء السد والدعم الواضح من الرأي العام السوداني.
ظل الموقف الرسمي الإثيوبي تجاه أحداث الخرطوم دوماً يتحدث عن توصل الأطراف السودانية إلى سلام عبر التفاوض، ومثلت أديس أبابا خلال أزمات سودانية سابقة وساطة فاعلة، آخرها الدور المهم الذي قامت به من خلال وساطة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بعد نجاح الثورة السودانية في أبريل (نيسان) 2019 عقب سقوط الرئيس المعزول عمر البشير، وما كان لإثيوبيا من دور مشهود في تحقيق وصول الأطراف السياسية السودانية المختلفة إلى اتفاق.
مثلت زيارة وزير الخارجية السوداني المكلف حسين عوض إلى إثيوبيا الأربعاء الثامن من مايو الجاري إشارة وبادرة لتجديد حسن نوايا يبديها الطرفان معاً، إذ استقبل وزير الدولة للشؤون الخارجية الإثيوبي السفير مسغانو أرغا، الوزير عوض، واستعرضا العلاقات الثنائية بين البلدين وبحث جهود إنهاء الأزمة في السودان.
وأشار السفير مسغانو إلى جهود إثيوبيا لإحلال السلام والاستقرار في دولة السودان الشقيقة، وجدد التزام إثيوبيا الحل السلمي للصراع الدائر وإيمان بلاده بعملية سلام شاملة يملكها ويقودها السودانيون.
ومن جانبه أكد وزير الخارجية السوداني أهمية دور إثيوبيا في تحقيق السلام في السودان، داعياً إلى زيادة جهودها في دعم المحاولات الشاملة لإنهاء الأزمة بناءً على الشراكة والعلاقات الوثيقة بين البلدين.
وكان وزير الخارجية السوداني المكلف تلقى اتصالاً هاتفياً خلال أبريل الماضي من وزير الخارجية الإثيوبي تاي تسقي سلاسي، هنأه فيه بتقلده منصبه، وبحثا سبل تعزيز وتطوير العلاقات الثنائية بين البلدين.
حينها، أكد وزير الخارجية الإثيوبي اهتمام بلاده بالشأن السوداني واستتباب الأمن والاستقرار، مبدياً استعداده للتنسيق بين البلدين في المحافل الدولية بما يضمن أمن السودان ووحدة وسلامة أراضيه.
مؤشرات زيارة المسؤول السوداني إلى أديس أبابا والاهتمام الإثيوبي الذي حظيت به الزيارة ضمن التصريحات الإثيوبية يؤكد مدى حرص الطرفين على إعادة العلاقة إلى مجراها الطبيعي، والشاهد أن ظروف الحرب في السودان تظل لها انعكاساتها السلبية على إثيوبيا بحكم القرب والتداخل الشعبي بين البلدين.
وأجبرت الحرب هروب أعداد أخرى من اللاجئين الإثيوبيين الذين كانوا يعيشون في أماكن مختلفة داخل السودان بلغت أعدادهم الآلاف، مما اضطر أديس أبابا إلى استقبالهم عبر مخيمات خاصة، إلى جانب انعكاسات أمنية على حدود البلدين في ظل ظروف أمنية استثنائية تعيشها إثيوبيا هي الأخرى.
لكن يجب الإشارة إلى أنه من الطبيعي في علاقة البلدين المتجاورين اللذين تربط بينهما ظروف وتداخل ومصالح أمنية واجتماعية مشتركة، أن تتسم علاقاتهما بشيء من الحيطة والحذر لأجل استقرار حقيقي يتطلبه البلدان والواقع الإقليمي، ومثلت حرب السودان ظروفاً مشابهة لما شهدته إثيوبيا خلال عامين ماضيين إبان الحرب بين الحكومة الإثيوبية و”الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي” التي حصدت أرواح مئات الآلاف ولا تزال آثارها مستمرة، وانعكست في نزوح وعدم استقرار الملايين من أفراد الشعب الإثيوبي إلى أن أُبرمت “اتفاقية بريتوريا للسلام” في جنوب أفريقيا بين الطرفين في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023.
ومن هنا يأتي الموقف الإثيوبي الرسمي الداعم للسلام السوداني لاقتفاء مسار تجربة بريتوريا للسلام، وما أنجزته السياسة الإثيوبية من توصل إلى سلام كنموذج أفريقي.
على نطاق آخر، تخشى إثيوبيا التأثير المترتب من حرب السودان وانعكاساتها الإقليمية في ظروف الواقع الذي يعانيه شمال إثيوبيا المجاور للسودان والمواجهات التي تمثل فيها جماعة “فانو” الأمهرية خروجاً جديداً على الحكومة الإثيوبية في محاربتها للحكومة منذ العام الماضي، إلى جانب حيثيات أخرى تتشكل في الخلافات الحدودية بين قوميتي “أمهرة” و”تيغراي” ضمن بعض المناطق المتنافس عليها في الشمال الإثيوبي.
ويضاف إلى ذلك ما تمثله أطراف إقليمية من تأثير أمني في الجارة الشمالية إريتريا التي لا يزال لديها حضور عسكري في المنطقة، مما ينذر بخطر في حال تداخل الصراع وأخذه أبعاداً إقليمية تتأثر بها الدولتان.
آدم كامل المؤرخ الإثيوبي يقول في هذا الصدد إن “زيارة وزير الخارجية السوداني المكلف حسين عوض إلى أديس أبابا تأتي كدلالة لما تمثله إثيوبيا للسودان من جوار وإخاء في مختلف الأحوال، والبلدان ظلا يمثلان هموماً مشتركة على مدى التاريخ، وإثيوبيا حريصة على مواقفها المؤيدة للسودان في دعم السلام والاستقرار، بل إن علاقات البلدين أخوية في طبيعتها لما يجمع البلدين والشعبين من أواصر اجتماعية وثقافية وتاريخية”.
ويرى أنه منذ بداية أزمة الحرب السودانية قبل أكثر من عام كان رد فعل أديس أبابا واضحاً بتأييدها الحل السوداني واستعدادها للمساعدة في ذلك، وقالت الخارجية الإثيوبية “إن ما يحدث في السودان هي أحداث سودانية وإن الطريق للمضي إلى الأمام تكمن في الحلول السودانية، وإن إثيوبيا لديها الرغبة والاستعداد الكاملان للقيام بدورها التاريخي والإسهام في حل المشكلة التي يواجهها السودان بطريقة سلمية”.
وواصل أن “ما يحدث في أي من الدولتين تتأثر به الأخرى واتضح هذا خلال الأزمة السودانية، من خلال الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وما تسببت فيه أزمة الحرب من تدفق للاجئين مع تبعات ما تتحمله إثيوبيا”.
ويضيف أن “الظروف نفسها سبق أن تحملها السودان في تدفق اللاجئين الإثيوبيين إلى أراضيه خلال الحرب في تيغراي وغيرها من ظروف، فالمشاطرة في مستويات الظروف متبادلة هنا وهناك”.
ويقول “في تقديري إن زيارة وزير الخارجية السوداني إلى أديس أبابا تمثل مضمون علاقة البلدين في أصلها التاريخي والحاضر، خصوصاً في ما يرتبط بالتعاون والتناصح، ونتوقع للزيارة ثمرات سلام حقيقي ينعكس على البلدين والمنطقة ضمن الظروف الصعبة التي تعانيها”.
حسن مكي محمد أحمد المحلل السياسي المتخصص في شؤون القرن الأفريقي ووهو مدير سابق لجامعة أفريقيا بالسودان، يعتبر بدوره أن ما يجمع الخرطوم وأديس أبابا من تقارب ومصالح حري لتمجيد العلاقة لا الانحراف بها، ويقول “لكن ونتيجة لأخطاء استراتيجية درجت الدولتان على النشاط والتأثير السياسي المتبادل لأسباب تنافسية، فتاريخياً كان للسودان دور مباشر في دعم المعارضة الإثيوبية والتأثير السلبي في حكومة الجنرال منغستو هيلا مريام مما أدى إلى تغيير السلطة عام 1991 وتسلم الحركات الإثيوبية المعارضة بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي السلطة في أديس أبابا”.
ويزيد أنه “على الجانب الآخر، ظل الدور الإثيوبي مؤثراً في قضية جنوب السودان منذ عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي طوال أعوام الحرب الأهلية التي استمرت زهاء نصف قرن، والاستضافة الإثيوبية الممتدة للحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق، إلى حين انفصال جنوب السودان في التاسع من يوليو (تموز) 2011، كما كان للسودان دور في احتضان المتمردين الإريتريين إلى حين انفصال إريتريا عام 1993”.
ويقول “إذاً هناك أدوار متبادلة في التأثير مما لا يسفر إيجاباً عن استقرار البلدين والمنطقة الإقليمية قاطبة، فسياسة البلدين تدرك ذلك، مما يدفعها أكثر الأحيان إلى الجنوح للسلم والعلاقة الودية التي تحفظ استقرار الداخل المحلي”.
ويضيف أنه “على مستوى إيجابي تربط البلدين حدود تمتد لأكثر من 700 كيلومتر، وتداخلات قبلية على حدودهما إلى جانب التشابه في العادات والهموم، مما يعني أن التعاون بينهما هو الأقرب لتحقيق مصالح الشعوب عبر خطط وبرامج تنموية في ما بينهما، وتنسيق سياسي بالنسبة إلى الظروف التي يواجهانها مع جهات أجنبية لها أطماع وتدخلات سلبية لمصالح استعمارية”.
ويلخّص مكي دلالات زيارة الوزير السوداني إلى إثيوبيا بما أشير إليه من ضرورات في استقرار البلدين بهدف علاقات ودية تقدم المصالح الشعوبية على الأجندة السياسية غير المجدية مما يحقق استقرار البلدين والمصلحة العامة.
علاوة على ذلك فإن استقرار منطقة القرن الأفريقي خيار حيوي بالنسبة إلى البلدين في حفظ مصالحهما والارتقاء بها، وفقاً للمحلل السوداني الذي أوضح ضرورة إيلاء المصالح المشتركة اهتماماً كما تفعل دول كثيرة من بلدان العالم المتحضر.
ويرى أن “خيار التعاون هو السبيل الوحيد لجلب الاستقرار وتحقيق الأهداف المنشودة لهما وللمنطقة الإقليمية، وظلت إثيوبيا ولا تزال متشددة في رفضها سياسات غربية خلال أزماتها المختلفة، كما يتصدى السودان حالياً لتدخلات أطراف عميلة تابعة لقوى أجنبية تجاه ما تقوم به من أدوار قذرة لرسم واقع بعينه في السودان والمنطقة الإقليمية”.
ويقول “إذاً الواقع المحلي والإقليمي رهين لسلام يقود إلى تعاون إقليمي موسع ومصالح متبادلة تفضي إلى استقرار دائم للدولتين والمنطقة بصورة عامة”.