الزبير نايل يكتب … الخرطوم.. شعاع الشمس بين الغيوم (١)
جلستُ إليه وكان متهللا رغم غلالة حزن شفيفة كانت تغشى وجهه..تنفس من أعماقه بمزيج نشوة وقلق وقال لي:
طويتُ سنواتٍ بعيدا عن مراتع صباي ومهد ذكرياتي لظروف متداخلة وعندما شعرت بالجفاف يجتاح مساحاتٍ بداخلي ناداني الحنين إلى تلك الديار ، حزمت أشواقي وتأبطت الأماني ويممت وجههي شطر ملتقى النيلين حيث الخرطومُ التي يطوقها النهر كأنه العاشق الولِه بين أعطاف محبوبته..
ساقت رياحُ الوجد سحبَ أشواقي لتهطل هناك وتنبت لي نضير ذكرياتي لاستعيد بها ذاكرتي التى علاها الصدأ وأرمم وجداني الذي صدعته أمطار المهاجر وأغسل روحي بماء نيلها الرقراق.
غادرت شط الخليج في بواكير المساء وكانت الدوحة حينها تتوضأ بمطر الشتاء على أنوارها الباهرة بعد أن ودعتْ ضيوف مونديالها التاريخي ..كنت ملهوفا وأرسم تخيلاتٍ لمدينتي التى أخاف مُر عتابها على هذه الغيبة ،، خرجتْ أشواقي من نافذة الطائرة بعد أن ضاق بها داخلها لتدفع جناحيها وتحثها على المسير ..
بعد مسرى ثلاث ساعات لفحت أنفي رائحة أهلي والضفاف فعرفت أني على مشارف مدينتي لكنني تعجبت كيف تسرب كل ذلك إلى داخل الطائرة لكنه نفاذ الحنين الذي لا يعرف الحواجز،، دنوت من النافذة فإذا بأنوار تلتمع وشريان الحياة متمددا بلونه الفضي وبدت لي الخرطوم كمن انحسر عنها جزء من غطائها وهي في عز الشتاء لذلك كان جفنها يرف ولم أدر أذاك من قلق أم رهق أم أضناها طول انتظار الفرح..
أخذ رشفة من فنجان قهوة وواصل الحديث… هبطتُ مطارها وقد انتصف ليلها وسكنت شوارعها قليلا ..خرجتُ وأنسامُ الشتاء الممزوجة برذاذ النهر تدلق الحياة في شراييني ..
صحبني شقيقي وصغاره الذين كانوا في استقبالي بعد أن غرسوا عيونهم المشتاقة في تضاريس وجهي فقد كنت مجردَ طيفٍ شارد في أذهانهم ..
عيناي تتخطف الأمكنة وتلتهم التفاصيل علها تسكت جوعا ينهشني.. وأسئلتي الملحاحة لا تنتظر اكتمال الإجابات من فرط لهفتها.. هذا هو ليل الخرطوم ماثلا أمامي بعد أن كان خيالا يداعبني في هزيع الليل لكن لماذا يبدو فاترا.. فقد عهدتها تطرز جميل ثيابها وتمزج عطرها وهي تستقبل أمسياتها بوجه طلق باسم..
لماذا الآن مخطوفة الوجه وعلى محياها قلق وفي مقلتيها نذر دموع؟ التفتْ مرافقي وقال لي: الخرطوم تمر فوق مطبات هوائية وتعبر جسرا مهتزا لكن لا تقلق فهذه مدينة لا تقبل الانكسار ورغم وجهها المرهق ستنفض عن هامتها الغبار بعد أن تهدأ أنفاسها وتعيد ترتيب خزائن مجدها ومطامير عزها.. سرت طمأنينة في نفسي ووجدتني أهتف :
لا تنكري وجهي…فأنت حبيبتي
وورود مائدتي .. وكأس شرابي
خرطوم جئتك كالسفينة متعبا
أخفي جراحاتي وراء ثيابي…
بهذه المناجاة المستلفة من نزار قباني نهض صديقي بعد أن اعتدلت في جلستي لسماع المزيد ،كان على موعد لكنه قطع وعدا بمواصلة الحديث عن مشاهداته في الخرطوم.